كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد روى عاصم بن كليب عن أبي عبد الرحمن السّلمي قال: قرأ الحسن والحسين رحمة الله عليهما عَلَيَّ {وَأَرْجُلِكُمْ} فسمع عليٌّ ذلك وكان يقضي بين الناس فقال: {وَأَرْجُلَكُمْ} هذا من المقدّم والمؤخر من الكلام.
وروى أبو إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال: اغسلوا الأقدام إلى الكعبين.
وكذا روى عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قرأ {وَأَرْجُلَكُمْ} بالنصب.
وقد قيل: إن الخفض في الرجلين إنما جاء مقيّدًا لمسحهما لكن إذا كان عليهما خُفَّان، وتلقينا هذا القيد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذْ لم يصح عنه أنه مسح رجليه إلا وعليهما خُفّان، فبيّن صلى الله عليه وسلم بفعله الحال التي تُغسل فيه الرِّجل والحال التي تمسح فيه، وهذا حسن.
فإن قيل: إنّ المسح على الخفين منسوخ بسورة «المائدة» وقد قاله ابن عباس، وردّ المسح أبو هريرة وعائشة، وأنكره مالك في رواية عنه فالجواب أن من نفى شيئًا وأثبته غيره فلا حجة للنافي، وقد أثبت المسح على الخُفّين عدد كثير من الصحابة وغيرهم، وقد قال الحسن: حدّثني سبعون رجلًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم مسحوا على الخفين؛ وقد ثبت بالنقل الصحيح عن همام قال: بَالَ جَريرٌ ثم توضأ ومسح على خُفيه.
قال إبراهيم النخعيّ: وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خُفَّيه.
قال إبراهيم النخعي: كان يعجبهم هذا الحديث؛ لأن إسلام جرير كان بعد نزول «المائدة» وهذا نص يردّ ما ذكروه وما احتجوا به من رواية الواقدي عن عبد الحميد بن جعفر عن أبيه أن جريرًا أسلم في ستة عشر من شهر رمضان، وأن «المائدة» نزلت في ذي الحجة يوم عرفات، وهذا حديث لا يثبت لوهاه؛ وإنما نزل منها يوم عرفة {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} على ما تقدّم؛ قال أحمد بن حنبل: أنا أستحسن حديث جَرير في المسح على الخفين؛ لأن إسلامه كان بعد نزول «المائدة» وأما ما روي عن أبي هريرة وعائشة رضي الله عنهما فلا يصح، أما عائشة فلم يكن عندها بذلك عِلْم؛ ولذلك رَدَّت السائل إلى علي رضي الله عنه وأحالته عليه فقالت: سَلْه فإنه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ الحديثَ.
وأمّا مالك فما روي عنه من الإنكار فهو مُنْكر لا يصح، والصحيح ما قاله عند موته لابن نافع قال: إني كنت آخذ في خاصة نفسي بالطهور ولا أرى من مسح مُقَصّرًا فيما يجب عليه.
وعلى هذا حمل أحمد بن حنبل ما رواه ابن وهب عنه أنه قال: لا أمسح في حضر ولا سفر.
قال أحمد: كما روى عن ابن عمر أنه أمرهم أن يمسحوا خفافهم وخلع هو وتوضأ وقال: حُبِّب إلي الوضوء؛ ونحوه عن أبي أيوب.
وقال أحمد رضي الله عنه: فمن ترك ذلك على نحو ما تركه ابن عمر وأبو أيوب ومالك لم أنكره عليه، وصلينا خلفه ولم نعبه، إلا أن يترك ذلك ولا يراه كما صنع أهل البدع، فلا يُصلَّى خلفه.
والله أعلم وقد قيل: إن قوله: {وَأَرْجُلكُمْ} معطوف على اللفظ دون المعنى.
وهذا أيضًا يدل على الغسل فإنّ المراعى المعنى لا اللفظ، وإنما خفض للجوار كما تفعل العرب؛ وقد جاء هذا في القرآن وغيره قال الله تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ} [الرحمن: 35] بالجرّ لأن النحاس الدخان.
وقال: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} [البروج: 21-22] بالجرّ.
قال امرؤ القيس:
كبيرُ أُناسٍ في بِجَادٍ مُزَمَّل

فخفض مزمّل بالجوار، وأن المزمّل الرجل وإعرابه الرّفع؛ قال زهير:
لَعِب الزمان بها وغَيَّرها ** بعدي سَوَافي المُورِ والقَطْرِ

قال أبو حاتم: كان الوجه القطر بالرّفع ولكنه جره على جوار المور؛ كما قالت العرب: هذا حجر ضَبٍّ خَربٍ؛ فجرّوه وإنما هو رفع.
وهذا مذهب الأخفش وأبي عبيدة وردّه النحاس وقال: وهذا القول غلط عظيم لأنّ الجوار لا يكون في الكلام أن يقاس عليه، وإنما هو غلط ونظيره الإقواء.
قلت: والقاطع في الباب من أن فرض الرِّجلين الغَسل ما قدّمناه، وما ثبت من قوله عليه الصلاة والسلام: «ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار» فخوّفنا بذكر النار على مخالفة مراد الله عز وجل، ومعلوم أن النار لا يُعذَّب بها إلا من ترك الواجب، ومعلوم أن المسح ليس شأنه الآستيعاب ولا خلاف بين القائلين بالمسح على الرجلين أنّ ذلك على ظهورهما لا على بطونهما، فتبيّن بهذا الحديث بطلان قول من قال بالمسح، إذ لا مدخل لمسح بطونهما عندهم، وإنما ذلك يُدرك بالغَسل لا بالمسح.
ودليل آخر من جهة الإجماع؛ وذلك أنهم اتفقوا على أن من غسل قدميه فقد أدّى الواجب عليه، واختلفوا فيمن مسح قدميه؛ فاليقين ما أجمعوا عليه دون ما اختلفوا فيه.
ونقل الجمهور كافّة عن كافّة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أنه كان يغسل رجليه في وضوئه مرة واثنتين وثلاثًا حتى يُنقيهما؛ وحسبك بهذا حجة في الغَسل مع ما بيّناه فقد وَضَح وظهر أن قراءة الخفض المعني فيها الغسل لا المسح كما ذكرنا، وأن العامل في قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} قوله: {فاغسلوا} والعرب قد تعطف الشيء على الشيء بفعل ينفرد به أحدهما تقول: أكلت الخبز واللبن أي وشربت اللبن؛ ومنه قول الشاعر:
عَلفتُها تِبْنًا ومَاءً باردًا

وقال آخر:
ورأيتُ زوجِك في الوغى ** مُتَقَلِّدًا سَيْفًا ورُمْحا

وقال آخر:
وأَطْفَلَتْ... ** بِالَجْلَهَتَيْن ظِباؤُها ونَعامُها

وقال آخر:
شَرَّابُ ألْبانٍ وتمرٍ وإقِط

التقدير: علفتها تِبنًا وسَقيتُها ماء.
ومتقلِّدًا سيفًا وحامِلًا رُمْحًا.
وأطْفَلَتْ بالجَلهَتَيْنِ ظباؤها وفرخت نعامها؛ والنعام لا يُطفِل إنما يُفرِخ.
وأطفلت كان لها أطفال، والجَلْهَتَانِ جنبتا الوادي.
وشَرَّابُ ألبانٍ وآكلُ تمر؛ فيكون قوله: {وَامْسَحُوا بِرُءُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} عطف بالغَسل على المسح حَمْلًا على المعنى والمراد الغَسل؛ والله أعلم.
الرابعة عشرة قوله تعالى: {إِلَى الكعبين} روى البخاري: حدّثني موسى قال أنبأنا وُهَيْبٌ عن عمرو هو ابن يحياى عن أبيه قال: شهدتُ عمرو بن أبي حَسَن سأل عبد الله ابن زيد عن وضُوء النبي صلى الله عليه وسلم فدعا بِتور من ماء، فتوضأ لهم وُضوء النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأكفأ على يده من التور فغسل يديه ثلاثًا، ثم أدخل يده في التَّوْر فمضمض واستنشق واستنثر ثلاث غَرْفاتٍ، ثم أدخل يده فغسل وجهه ثلاثا، ثم أدخل يديه فغسل يديه إلى المِرفَقين ثلاثًا، ثم أدخل يده فمسح رأسه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة، ثم غسل رجليه إلى الكعبين؛ فهذا الحديث دليل على أن الباء في قوله: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} زائدة لقوله: فمسح رأسه ولم يقل برأسه، وأنّ مسح الرأس مرة، وقد جاء مبينًا في كتاب مسلم من حديث عبد الله بن زيد في تفسير قوله: فأقبل بهما وأدبر، وبدأ بمقدّم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردّهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه.
واختلف العلماء في الكعبين فالجمهور على أنهما العظمان الناتئان في جنبي الرجل.
وأنكر الأصمعي قول الناس: إنّ الكَعْب في ظهر القدم؛ قاله في «الصحاح» وروي عن ابن القاسم، وبه قال محمد بن الحسن؛ قال ابن عطية: ولا أعلم أحدًا جعل حدّ الوضوء إلى هذا، ولكن عبدالوهاب في التلقين جاء في ذلك بلفظ فيه تخليط وإيهام؛ وقال الشافعي رحمه الله: لم أعلم مخالفًا في أنّ الكعبين هما العظمان في مَجْمع مَفْصِل الساق؛ وروى الطبري عن يونس عن أشهب عن مالك قال: الكعبان اللذان يجب الوضوء إليهما هما العظمان الملتصقان بالساق المحاذيان للعقب، وليس الكعب بالظاهر في وجه القدم.
قلت: هذا هو الصحيح لغة وسنة فإن الكَعْب في كلام العرب مأخوذ من العُلُوّ ومنه سميت الكعبة؛ وكَعَبَتِ المرأة إذا فلك ثديُها، وكَعْب القناة أنْبُوبها، وأُنبوب ما بين كلِّ عُقْدتين كَعْبٌ، وقد يُستعمل في الشرف والمجد تشبيها؛ ومنه الحديث «واللَّهِ لا يزالُ كَعْبِك عاليًا» وأما السّنة فقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود عن النعمان بن بشير: «واللَّهِ لتُقيمُنَّ صفوفَكم أو ليخالِفَنَّ الله بين قلوبكم» قال: فرأيتُ الرّجل يُلصق مَنْكِبه بِمَنْكِب صاحبه، وركبته بركبة صاحبه وكعبه بكعبه.
والعقب هو مؤخر الرِّجل تحت العُرقوب، والعُرقوب هو مجمع مَفصِل الساق والقدم، ومنه الحديث «وَيْلٌ للعراقيب من النار» يعني إذا لم تُغسل؛ كما قال: «وَيْلٌ للأعقاب وبطون الأقدام من النّار».
الخامسة عشرة قال ابن وهب عن مالك: ليس على أحد تخليل أصابع رجليه في الوُضوء ولا في الغُسل، ولا خير في الجفاء والغُلوّ؛ قال ابن وهب: تخليل أصابع الرِّجلين مُرَغَّب فيه ولابد من ذلك في أصابع اليدين؛ وقال ابن القاسم عن مالك: من لم يُخلّل أصابع رجليه فلا شيء عليه.
وقال محمد بن خالد عن ابن القاسم عن مالك فيمن توضأ على نهر فحرّك رجليه: إنه لا يُجزئه حتى يَغسلهما بيديه؛ قال ابن القاسم: وإن قدر على غَسل إحداهما بالأخرى أجزاه.
قلت: الصحيح أنه لا يجزئه فيهما إلا غَسل ما بينهما كسائر الرجل إذ ذلك من الرِّجل، كما أن ما بين أصابع اليد من اليد، ولا اعتبار بانفراج أصابع اليدين وانضمام أصابع الرجلين؛ فإن الإنسان.
مأمور بغَسل الرِّجل جميعها كما هو مأمور بغسل اليد جميعها.
وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا توضأ يَدْلُك أصابع رجليه بِخنصره، مع ما ثبت أنه عليه الصلاة والسلام كان يغسل رجليه؛ وهذا يقتضي العموم.
وقد كان مالك رحمه الله في آخر عمره يَدْلُك أصابع رجليه بِخنصره أو ببعض أصابعه لحديث حدّثه به ابن وهب عن ابن لَهِيعَة والّليث بن سعد عن يزيد بن عمرو الغِفَاري عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي «عن المُسْتَورِد بن شدّاد القُرشي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ فيُخلل بِخنصره ما بين أصابع رجليه»؛ قال ابن وهب فقال لي مالك: إنّ هذا لحسن، وما سمعتُه قطّ إلا السّاعة؛ قال ابن وهب: وسمعتُه سئُل بعد ذلك عن تخليل الأصابع في الوضوء فأمر به.
وقد رَوى حُذَيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خَلِّلوا بين الأصابع لا تُخَللها النّار» وهذا نص في الوعيد على ترك التَّخليل؛ فثبت ماقلناه. والله الموفق.
السادسة عشرة ألفاظ الآية تقتضي الموالاة بين الأعضاء، وهي إتباع المتوضىء الفِعْلَ الفِعْلَ إلى آخره من غير تراخ بين أبعاضه، ولا فصل بفعل ليس منه؛ واختلف العلماء في ذلك؛ فقال ابن أبي سَلَمة وابن وهب: ذلك من فروض الوُضوء في الذّكر والنسيان، فمن فرّق بين أعضاء وضوئه متعمدًا أو ناسيًا لم يجزه.
وقال ابن عبدالحكم: يجزئه ناسيًا ومتعمّدًا.
وقال مالك في «المدوّنة» وكتاب محمد: إن الموالاة ساقطة؛ وبه قال الشافعي.
وقال مالك وابن القاسم: إن فرَّقه متعمدًا لم يُجزه ويُجزئه ناسيًا؛ وقال مالك في رواية ابن حبيب: يُجزئه في المغسول ولا يُجزئه في الممسوح؛ فهذه خمسة أقوال ابتنيت على أصلين: الأوّل أن الله سبحانه وتعالى أَمَرَ أَمْرا مطلقًا فوالِ أو فرِّق، وإنما المقصود وجود الغَسل في جميع الأعضاء عند القيام إلى الصّلاة.
والثاني أنها عبادات ذات أركان مختلفة فوجب فيها التوالي كالصّلاة؛ وهذا أصح.
والله أعلم.
السابعة عشرة وتتضمن ألفاظ الآية أيضًا الترتيب وقد اختلف فيه؛ فقال الأَبْهَري: الترتيب سنة، وظاهر المذهب أن التَّنكيس للناسي يُجزىء، واختلف في العامد فقيل: يُجزىء ويُرتِّب في المستقبل.